الأربعاء 17-09-2025

الفضاء العام بما هو جدل عقلاني

حسب يورغن هابرماس فإن المجال العام الذي بدأ بالظهور في القرن الثامن عشر تطور بوصفه فضاء اجتماعيا متميزا عن الدولة والاقتصاد والعائلة، فيه يمكن للأفراد أن يتواصلوا فيما بينهم كمواطنين مستقلين من أجل التداول في الصالح العام. كيف يدير المجال العام جدلا عقلانيا في قضايا عامة أخذت محددات اجتماعية يصعب الاقتراب منها؟ الأمر ليس عمليات تمرين ذهني معزولة عن الحياة العامة كما يجري تصويرها، لكنها في واقع الحال تؤسس للتداول السياسي السلمي وتحويل الانتخابات العامة إلى مراجعات سياسية واقتصادية حقيقية، وفي هذا الحصار للجدل العام  تتحول الحياة السياسية نفسها إلى لعبة احتكارية يصعب المشاركة فيها، ثم تدير هذه الاحتكارات الموارد العامة، وتصبح الأسواق والأقوات والمدن أسيرة لعمليات سياسية واجتماعية مغلقة وغامضة. كيف ندير جدلا عاما حرّا يؤثر إيجابيا في خياراتنا السياسية والعامة؟ لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي واقتصادي من غير وجود أفكار وتيارات تقدم نفسها بوضوح وحرية تجعل الانتخابات النيابية والعامة تعكس هذه الاتجاهات والأفكار. وبغير هذا الفضاء لا يمكن الانتقال بالانتخابات العامة إلى عمليات سياسية حقيقية، وسوف تظل جميع الأفكار والحلول والمبادرات معزولة عن هذه الانتخابات ولا تؤثر فيها بشيء المجالس التشريعية المنتخبة أو المفترض أنها منتخبة، فهي في الحقيقة لا تعكس جدلا عاما يجريه المواطنون أو تشكلات وخيارات يتجهون إليها وفق مخرجات هذا الجدل الذي يجب أن يعبر عن مصالحهم وأفكارهم واتجاهاتهم وتحدياتهم وفرصهم، .. بل وهواجسهم ومخاوفهم من الحاضر والمستقبل! 
إن المجال العام كما يقول هابرماس عالم من الجدل العقلاني النقدي تخضع فيه الأمور المتعلقة بالخير العام للنظر، وهو أيضا فضاء تشكيل ثقافي يحتوي محاولاتنا للاستعانة  بنداءات بنيوية طلبا للفت الانتباه لجعل الطريقة التي نفكر بها ونمارس الفعل مستجيبة لأعمق قيمنا والتزاماتنا الأخلاقية.
وفي ذلك فإن الممارسات والمنظورات الدينية تبقى تمثل مصادر أساسية للقيم التي تمد الحياة بأخلاقيات المواطنة متعددة الثقافات، وتفرض التضامن والاحترام المتبادل معا. لكن لا بد من صياغتها بعقلانية وعلى نحو متاح للجميع، ولا تقع مسؤولية هذه المهمة على المواطنين المتدينين فحسب، لكن على جميع المشاركين في الاستخدام العام للعقل. 
يقول كورنيل ويست: هناك ما يدعو للقلق من الدوغمائية؛ ليست الدينية فقط ولكن أيضا الدوغمائية والتسلط التي تلبس لبوس العلمانية، وتلفق الحوار وتنهي الجدل. إن الممارسات الديمقراطية (الحوار والجدل في الخطاب العام) ملتبسة ويعوزها النزاهة. وقد تمكنت السياسة من النجاح في ظروف اقتصاد السوق الذي تسيطر عليه السياسة، لكنها قدرة تواجه تحديات في ظل الرأسمالية المعولمة، وأصبحت السياسة بوصفها وسيلة تقرير المصير ديمقراطيا مستحيلة بقدر ما هي فائضة عن الحاجة. وتحت ضغوط المقتضيات الاقتصادية التي تغلب على نحو متصاعد على المجالات الخاصة للحياة ينسحب الأفراد أكثر فأكثر فزعين إلى فقاعة مصالحهم الخاصة. وتضمر الرغبة في المشاركة في الفعل الجماعي والوعي بأن المواطنين يمكن لهم تشكيل الظروف الاجتماعية لحياتهم على نحو تعاوني بواسطة الفعل التضامني.